وتحديات أخرى في المنح التنموي الخيري

كتب: طارق السلمان

مستشار المشاريع التنموية

mrtarekms@

ــــــــــــــــــ

كنت قد تحدثت في المقالة السابقة تحت عنوان (تحديات في المنح التنموي الخيري) عن خمسة تحديات أو متغيرات طرأت على عمليات المنح في قطاعنا غير الربحي خلال السنوات الأخيرة، واعتبرتها آثارا مباشرة وغير مباشرة لتحول المنح إلى عملية مؤسساتية تتصدى لها الجهات والكيانات أكثر من كونها مقدمة من الأفراد.

والحقيقة أن ردود الفعل والرسائل التي وصلتني كانت إيجابية للغاية، وجلها تحث على مواصلة الحديث، فبعضهم شارك بالإضافة، وبعضهم بالتحفيز والمساندة.. فأواصل الحديث مستعينا بالله ومتوكلا عليه في سرد المزيد من التحولات والتحديات:

  • ضعف إدارة المعرفة ورصد الخبرات والدروس المستفادة:

فمن نقاط الضعف الواضحة جدا هو “ضعف إدارة المعرفة” وعدم القدرة على تحويل البيانات المجردة إلى معلومات وحقائق واستنتاجات ذات ثبات ومصداقية، وهي كانت جديرة بأن تكون من أوائل النتائج للتحول المؤسسي.

ولو سألنا أسئلة بدهية عن سمات المشاريع الناجحة والفاشلة في مؤسسة عريقة، مما يجب أن تكون صورته واضحة بسبب (تراكم) سنوات الدعم، لوجدنا أن الإجابات مترددة ومختلفة.. من أمثلة الأسئلة الدقيقة: ما المشاريع الأكثر نجاحا الكبيرة أم الصغيرة؟ هل المشاريع في المدن أكثر فعالية أم في البلدات أم في القرى؟ هل لنوع المشاريع ارتباط بالنجاح والفشل؟ هل لنوع الفئة أو عمرها أثر في النجاح؟ أين كفاءة صرف المال؟ وأين الهدر في الصرف؟ وبشكل عام هل نعرف على وجه التحديد عوامل نجاح المشاريع (لماذا نجحنا؟)، ونعرف عوامل فشل المشاريع (لماذا فشلنا؟)،

  • تضاؤل الرغبة في تخصيص أموال تتمتع بمرونة الصرف لاغتنام الفرص:

فأحيانا يتم إساءة التعامل مع التخطيط، ويصبح غاية بعد أن كان وسيلة، وبحيث يتحول إلى قيد يمنع اهتبال الخير وارتياد المساحات المتجددة أثناء العمل. ومن الذكاء، بل ومن (الشرع) العمل على زيادة حظ صاحب المال، بأن توجد مصارف ذات مرونة في الحركة في ذات الاتجاهات الاستراتيجية أو حتى خارجها إذا كانت موزونة ومحددة لاغتنام الفرص.

  • الاندفاع نحو استدامة الجهات بدون ضوابط كافية: فمع موجة الاستدامة، تدافعت الجهات نحو الاستثمارات والأوقاف والاستثمار الاجتماعي، وأحد أبرز ملاحظاتي على هذا المشهد أن الفريق الذي يقوم بدور العمل الخيري، غالبا هو نفس الفريق الذي يدير تلك الأعمال الاستثمارية “المحققة للعوائد المادية”، ولا شك أن الجدارات مختلفة بين الموقعين “الخيرية” و ” المادية”.. ولذلك نجد أن المشاريع مستنسخة في غالبها وتفتقد للفكر الاستثماري أو التشغيلي في بعضها الآخر.. لا أنفي وجود تجارب جيدة، وضوابط نجحت في واقع، ومشاريع تميزت.. ولكن كل هذه لو وضعناها في ميزان المقارنة مع الجهود والأموال والحملات لكان الجواب مختلفا.
  • التعامل مع الجميع بقوالب موحدة ونماذج جامدة: مملكتنا الغالية قارة، والمشاريع متفاوتة، والقدرات متباينة.. والتوجه نحو المشاريع النوعية والجهات القوية لوحدها.. يسبب فجوات تنموية لاتخطر على البال.. فالرعوية قرينة التنموية، والسلة الغذائية وشربة الماء.. قد يكون أجرها أعظم من مناهج تبنى أو دراسات تقدم، وهنا تأتي أهمية توسيع وتنويع سلة المنح في قوالبها وغاياتها، وتنويعها على المستفيد ذاته، وإعادة تقييم المستفيدين من مناظير متعددة.

وقد أحسنت بعض المؤسسات في وضع مستويات للدعم، واشتراطات متنوعة المستويات بحسب نوع الجهة وتاريخها وموقعها.. والأمر بحاجة لمزيد من الوعي والعمل.

  • فقدان شعور الجمعيات بملكية المبادرات المحتضنة: في بعض الأحيان يطلق المانحون مبادرات ومشاريع ويبحثون عن جهات حاضنة لها، فإذا لم تستغرق فترة الاحتضان وقتا كافية ليحصل التبني الحقيقي، وإلا فسيكون العذر حاضرا أمام الجهات المنفذة حال تعثر الشروع أو فشله، وسيشعرون بالانفكاك عنه، وكأنما هو جسم غريب ملتصق بخلايا الجسم، وسيلقون باللوم كل اللوم على فكرته، ومن تبناه وأوقعهم فيه!
  • الاتجاه (المفرط) بالضغط على الجمعيات لإظهار الأثر:

ويجب بداية أن نعيد تحرير هذا المصطلح (الأثر)، ونتعامل معه وفقا لمحدداتها العلمية أو على الأقل أن نوضح إطارنا الخاص به حين طلبه من الآخرين. والحق أنه يجب أولا أن نعيد ترتيب مصطلحاتنا حتى لا نشق على أنفسنا ولا على إخواننا؛ والمصطلحات في هذا السياق تراتبية بالشكل التالي: (المخرجات”output” ثم العوائد “outcomes” ثم الأثر”impact” ) ، إن الركض المستمر خلف المصطلحات وبعض المنهجيات بدون وعي بغاياتها ومواضع استخدامها وممكناتها، شوه المصطلحات أولا، ثم أرهق الجمعيات والمؤسسات ثانيا. ورأينا من يتحدث عن استمارة رضا المستفيد بعد التدريب بأنها (الأثر) المستهدف!.

خاتمة:

أؤمل أن تلقى لدى المعنيين قبولاً حسنا، كما أنني سأكون في غاية السرور حين أتلقى نقداً أو إضافة على هذه التحديات، لأنني أشعر وأنا أكتبها أنني أقوم بالنقد الذاتي المنطلق من الممارسة الفعلية. وأنا متفائل بأن هذا الموضوع سيجد أصداء لدى خبراء أكثر كفاءة مني، أو لدى زملاء يزيدونني بصيرة في تحديات أخرى.

وهو جهد المقل، وسعي المجتهد، أتمنى أن أكون قد وفقت فيه للصواب.

والحمد لله رب العالمين.

المقالات الموجودة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب

للنشر والمشاركة