العمل الخيري المانح بين مملكتين

كتب: أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف

ahmalassaf@

ــــــــــــــــــ

تشبه الدراسات المقارنة المرايا المجلوة التي نرى في أولاها الذات، وتعكس الأخرى صورة لمن يأتلف ويختلف مع الأولى في أشياء، وما أعظم بركات هذا النوع من الدراسات وأكثر أهميتها؛ ففيها حصاد تجارب الآخرين وخبراتهم، كما تحوي خلاصات تحمي من تكرار الأخطاء وتعين على تجاوز المصاعب، وتغني عن عناء التنقيب والبحث. من هذا الباب كانت هذه الدراسة الاستقصائية بعنوان: العمل الخيري المانح دراسة ميدانية مقارنة على أنظمة وتطبيقات العمل الخيري المانح بين المملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة البريطانية باعتبار عظم المنح في كلا البلدين بالإضافة لاهتمامهم بجوانب الحوكمة والمتابعة، تأليف د.إبراهيم بن علي بن إبراهيم المحسن. وقد صدرت الطبعة الأولى منها عام (1443=2022م) عن شركة دار الحضارة للنشر والتوزيع.

يقع هذا الكتاب في (367) صفحة مكونة من إهداء ثمّ شكر وتقدير فمقدمة حافلة تحتوي على مشكلة الدراسة وأهميتها وأهدافها وتساؤلاتها، وفيها تفصيل عن منهجها وعينتها وحدودها وأدواتها وحدودها، والتنبيه إلى إضافاتها وما سبقها من دراسات. ويعقب المقدمة فصل تمهيدي ذو مدخل تعريفي بالعمل الخيري المانح في مفهومه ومشروعيته وخصائصه وضوابطه وآثاره، ثمّ يتلوه أربعة فصول يليها عرض الجانب الميداني للدراسة فالخاتمة والمصادر التي بلغت مئة وتسعة وسبعين ما بين كتب ومقالات ومواقع وأخيرًا الفهرس.

أهدى المؤلف كتابه لوالديه وعائلته وأسرته ومشايخه، ولبلده وجميع العاملين في القطاع غير الربحي، علمًا أن أصل هذا الكتاب رسالة علمية نال بها المحسن درجة الدكتوراة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ولذا أثنى على مشرفه د.عبدالله المجلي، ومساعديه باللغة الإنجليزية أ.إحسان حنان، والمستشار القانوني علي عبدالله أحمد، واتحاد المنظمات المانحة في بريطانيا، وشكر المناقشين لأطروحته الأمير د.سعود بن سلمان بن محمد، و أ.د.عبدالله اللحيدان.

ثمّ أشار الباحث في المقدمة التي كشفت جوانب الدراسة من أطرافها إلى أن أهمية الموضوع تتلخص في القصور الحاصل عن فهم المنح الخيري وهو قصور منشؤه من ضعف الإعلام الخيري فيما يبدو، وزيادة على ذلك فمن الأهمية أيضًا بيان خطوات المملكة في المنح الخيري وهي منهجية جديرة بالإبراز والإشادة. أما فكرة هذه الدراسة فانبثقت خلال زيارة شارك فيها د.إبراهيم قبل تسع سنوات لبريطانيا حين حضر لقاء أكاديميًا امتدح فيه أستاذ جامعي إنجليزي الأوقاف في الحضارة الإسلامية حتى أصبح الوقف لدى المسلمين أحد المراجع التي استند إليها الدستور البريطاني.

أما سبب اختيار المؤلف للسعودية فيعود لكونها تسعى بجدية بالغة لتنظيم العمل الخيري وحوكمته، ولقيمتها في العالم الإسلامي بقدسية الحرمين ومكانة الجزيرة العربية، ولثقلها في مجال المنح الخيري. ويرجع اختيار بريطانيا لأنها دولة أوروبية مؤثرة عالميًا، وهي أول دولة أصدرت قانون تنظيم العمل الخيري، وفوق ذلك فإن التجربة البريطانية يسهل استنساخها محليًا وخليجيًا. وقد وفق الله المؤلف لجمع عراقتين في دراسته أولاهما العراقة السعودية التي تؤوي إلى مرجعية إسلامية راسخة وأخلاق عربية باسقة وارتباط عميق بالخير والإحسان، وثانيهما عراقة الإنجليز ذوي التاريخ والتجربة وصرامة النظام.

كما تمثّل هذه الدراسة إضافة علمية برصد متخصص لأثر العمل الخيري السعودي، وتظهِر أيضًا الوجه المشرق للمملكة في هذا الحقل، وسوف تعين على قياس أداء المؤسسات الخيرية وتحديد درجة قوة الإجراءات الحكومية عبر دراسة وصفية تتبع منهجا استقرائيًا وكميًا من خلال استبانة ومقابلة لعينة الدراسة المرتبطة مؤسساتيًا بمعايير تنحصر في التأثير الواسع على نطاق العمل وفي التشريع، وأن تكون المؤسسة ذات منح مالي كبير، ولديها موارد بشرية كثيرة العدد. وسوف يدرس الباحث مئة مفردة في البلدين، وتشمل العينة البشرية أعضاء مجالس إدارة ومجالس أمناء، ومديرين تنفيذين ومديري إدارات المنح، ومديري الإدارات القانونية والمالية، ومشرفي المنح ومديري المؤسسات المستفيدة. وبعد الاستقراء الفاحص عثر الباحث على عشر مؤسسات تنطبق عليها معاييره الآنفة، وهي مناصفة بين البلدين الكبيرين.

ويدرس الفصل الأول: أنظمة العمل الخيري المانح في المملكة العربية السعودية وضوابطه، ومن بصيرة المؤلف وحسن استثماره لجهده العلمي أن استلّ من هذا الموضوع المتشعب كتابين مستقلين حتى لا يثقل على هذا الكتاب فيتعاظم حجمه ويعسر هضمه، وكي لا تضيع الثمار التي اجتمعت بين يديه من طول معاناة البحث الاستقرائي الاستقصائي. وفي هذا الفصل استعراض لأنظمة وأجهزة حكومية وضوابط وإجراءات عملية، وتعريف بالمؤسسات السعودية الخمس التي توافقت مع المعايير ودرسها الباحث.

لذلك من الطبيعي أن يكون الفصل الثاني عن أنظمة العمل الخيري المانح في المملكة المتحدة وضوابطه؛ ولأن الموضوع واسع أفرد له المؤلف كتابين آخرين تمامًا كصنيعه مع سابقه، وما أجدر الباحثين بالإفادة من جهودهم لخدمة أكثر من موضوع قدر المستطاع. وأعاد د.المحسن في الفصل الثاني توصيف الموضوعات السابقة في الفصل الأول ولكن فيما يخص بريطانيا. وكان تعريفه بالمؤسسات البريطانية الخمس أوسع من نظيراتها السعودية، وهذا التوسع النسبي مفهوم ومحمود لأهمية تعريف القارئ السعودي والعربي بها.

أما الفصل الثالث فمخصص لمقارنة أنظمة وإجراءات العمل الخيري المانح بين المملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة، وهو نتيجة منبثقة عن مضمون الفصلين السابقين، ويتضح منه قدم العمل المانح في بريطانيا، واعتمادهم على السوابق القضائية خلافًا للأنظمة السعودية ذات المرجعية الشرعية. وتختلف طريقة إدارة العمل في البلدين والمرجعية الإدارية للقطاع، ثم تتباين المنطلقات والتوجهات بين البلدين؛ فالعمل في بريطانيا بدأ تنصيريًا واكتسى أخيرًا بصبغة إنسانية، بينما هو شرعي احتسابي في السعودية.

من أوجه المقارنة كذلك طريقة التسجيل في البلدين التي تختلف اختلافًا جذريًا إضافة إلى اختلاف المصطلحات الرائجة في القطاع داخل المملكتين. ثم عقد المؤلف مبحثين للمقارنة بين السعودية وبريطانيا فيما يخصّ الأنظمة والإجراءات، ومن كواشف هذه المقارنات وجود إثنين وعشرين مليون متطوع في بريطانيا يقابلهم أحد عشر ألف متطوع في السعودية التي يعمل في قطاعها المانح إثنان وعشرون ألف موظف مقابل سبعمئة وخمسة وسبعين ألف موظف في بريطانيا. وخلص الباحث إلى تقارب في الأهداف والمجالات بين البلدين، مع توسع الإنجليز في الاستثمار بالأسهم. ومما استبان له أن الجهاز المسؤول في السعودية عن القطاع المانح وزارة حكومية، أما في بريطانيا فيتابع عمل المنح من خلال إدارة مرتبطة بالبرلمان.

كذلك يتميز العمل الخيري البريطاني بأنه يعمل بانسجام وثقة مع الحكومة التي تراقبه وتحاسبه من خلال لجان برلمانية، وتشرف عليه بواسطة جهازين خاصين أحدهما يتبع للبرلمان. ويتعاون على الإشراف الرسمي السعودي ثلاث وزارات لكل واحدة اختصاص ومرجعية بحكم التخصص، والمسؤولية النظامية والإدارية، والرقابة الأمنية. وظهر للقارئ من جداول الكتاب الواضحة التباين الكبير بين عدد المؤسسات ودخلها المالي لصالح بريطانيا الأكبر عددًا والأكثر ميزانية. ومما تبينه الدراسة تفوق الإنجليز في قصر مدة الحصول على التصريح، وأن النظام البريطاني لا يفرق بين مؤسسة مانحة أو منفذة خلافًا للتفصيل في الأنظمة السعودية، إضافة إلى أن لدى بريطانيا تقدم جلي في المؤسسات الوسيطة، وهو ما تسعى إليه السعودية سعيًا منتظرًا.

وقد صدر أول نظام سعودي عام (1384=1964م) بينما في بريطانيا صدر النظام الأول عام (1601م)، ويلاحظ ازدياد عدد صفحات النظام البريطاني وعدد المواد الواردة فيه بأضعاف ما يوجد في الأنظمة السعودية. أما الاشتراطات الأولية للمنح فثمة تشابه بين البلدين مع اختلاف في الإجراءات حسب نظام كل مؤسسة حسبما توضحه جداول الكتاب. وبعض أوجه الاختلاف طبيعية بحكم عوامل الزمن وغيرها، وبعضها تتفوق فيه الأنظمة والتطبيقات السعودية على مثيلاتها الإنجليزية طبقًا لمعلومات الكتاب وتحليلاته.

ويتجه الفصل الرابع نحو دراسة العلاقة بين مؤسسات العمل الخيري المانح والجمعيات المنفذة في المملكة وبريطانيا، إذ يتدفق الدعم من المانح للمنفذ، ويطلع المنفذ المانح على تقاريره، ويكون المستفيد النهائي ألصق بالمنفذ منه بالمانح، وتختلف أساليب المنح طبقًا لفلسفة المؤسسة المانحة وأهدافها ومدى قربها أو بعدها من واقع المؤسسات التنفيذية. وتقوم عوامل نجاح العلاقة بين المانح والمنفذ في السعودية على تحقيق المصالح العامة، وشمولية مجالات المنح، والمتابعة والتقويم، ونقل المعرفة، مع أهمية تجنب عوامل الاخفاق التي تحوم حول انعدام التواصل أو ضعفه أو فشله، أو ضعف الحوكمة وقلة المشاريع المتكاملة، وتنوعها العريض لدى المنفذين أكثر مما عند المانحين، وانسداد آفاق التعاون والتشاور. ثم عرج المؤلف على ذات الأمر لدى بريطانيا التي تقوم عوامل نجاح عملها المانح على التخصص الفني، والتعاون من خلال المنصات، والتكامل والتنوع وتبادل المعرفة، مع وجود عوامل اخفاق بسبب اشتراطات زائدة، أو غياب مظلةً جامعة، أو ضعف التعاون المعنوي، أو نقص في العدد، وأورد المؤلف في ختام هذا الفصل المهم مقارنة تفصيلية بين البلدين.

كما بيّن الباحث الجانب الميداني للدراسة، وفيه أن عدد المشاركين من العاملين (426) منهم (313) من السعودية و (113) من بريطانيا. ويوجد في هذا الجانب الميداني النابض بالحياة ثلاثة فصول تحكي عن إجراءات الدراسة الميدانية، وتعرض نتائج ثبات قياس الدراسة، وتناقش نتائج الدراسة، ثمّ تقومها. وشملت الخاتمة عددًا من النتائج والتوصيات الخاصة بالسعودية منها تسريع اعتماد نظام الشركات غير الربحية، وضرورة أن تقيس المؤسسات المانحة أداءها سنويًا، مع الحث على ترجمة الأنظمة والخبرة السعودية، وإنشاء مراكز متخصصة، وتشجيع الباحثين على مزيد من الدراسة، والحرص على المشاريع المبتكرة، وهي في جملتها نتائج وتوصيات جدير ألّا يكون آخر العهد بها طباعتها على الورق.

المقالات الموجودة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب

للنشر والمشاركة